
في اليوم الدولي للقضاء على العنف الجنسي في النزاعات المسلحة،الذي يصادف اليوم ١٩ من يونيو من كل عام ، نعيد التذكير بمسؤولية العالم، حكومات ومؤسسات ومنظمات دولية، تجاه هذه الجريمة البشعة التي تنتهك الإنسانية في جوهرها.
لقد اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراره رقم 1325 لعام 2000، وقرارات لاحقة مثل 1820 و1888 و2106، مؤكدًا أن العنف الجنسي في النزاعات لا يمكن النظر إليه كأمر عارض، بل كتهديد مباشر للأمن والسلام الدوليين، يستوجب المساءلة والعدالة. وعلى الرغم من التزامات اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقيات جنيف، لا تزال الانتهاكات تتكرر، والصمت يهيمن، والعدالة تغيب. إن هذه الاتفاقيات لا تفقد معناها إلا حين تُترك الضحايا وحدهن في مواجهة الجلاد، دون محاسبة ولا جبر للضرر.
العنف الجنسي في النزاعات لا يُستخدم فقط كأداة لإذلال الأفراد، بل كوسيلة منهجية لهدم المجتمعات من الداخل، وتفكيك شبكات الثقة، وتدمير ما تبقى من الحماية المجتمعية للنساء والفتيات. إنه لا يترك أثرًا جسديًا فحسب، بل يزرع الرعب طويل الأمد، ويمنع التعافي، ويُشوّه مسارات العدالة الانتقالية، ويقوّض أي إمكانية للمصالحة. وقد أثبتت النزاعات المسلحة في العقدين الأخيرين أن العنف الجنسي ليس نتيجة فوضى الحرب، بل هو قرار واعٍ تتخذه أطراف مسلحة لتكريس السيطرة والهيمنة والتطهير الرمزي. وحين يترافق ذلك مع الإفلات من العقاب، فإن النتيجة تكون مضاعفة: مجتمع مكسور، وضحايا في الظل، وثقافة صمت تُشرعن الجريمة.
في اليمن، حيث يدخل النزاع عامه الحادي عشر، لم يعد العنف الجنسي حالة استثنائية، بل أصبح نمطًا متكررا وممنهجا تُمارسه أطراف متعددة بحق النساء والفتيات، خصوصًا في المناطق الخاضعة لسلطات غير رسمية أو لجماعات مسلحة. تشير التقديرات إلى أن 6.3 مليون امرأة وفتاة معرضات للعنف القائم على النوع الاجتماعي، في ظل انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة وخدمات الحماية والرعاية. وقد وثّقت منظمات محلية ودولية حالات مروعة تشمل اختبارات العذرية القسرية، واغتصاب المعتقلات، والتعذيب الجنسي، والإذلال في أماكن الاحتجاز. وتبرز في هذا السياق جرائم جماعة الحوثي، التي استخدمت الاحتجاز وسيلة لإسكات الناشطات والمعارضات، واعتدت على نساء بتهم واهية تتعلق بالمشاركة في العمل المدني أو التعبير عن الرأي.
في الوقت ذاته، انتشر زواج القاصرات كآلية بائسة للتأقلم، حيث تُجبر أكثر من 30% من الفتيات في اليمن على الزواج قبل سن الثامنة عشرة، ما يعرضهن لمزيد من العنف الجنسي والأسري. وتعيش النساء المهمشات، خصوصًا العاملات في الشوارع كبائعات أو متسولات، في دائرة تهديد يومي بالعنف والتحرش، وسط غياب أي آلية قانونية تحميهن أو تضمن لهن الوصول إلى العدالة. وتكشف التقارير أن أقل من 5% من المرافق الصحية في البلاد تقدم خدمات سريرية لضحايا الاغتصاب، بينما تحاصر الوصمة والعار غالبية الناجيات وتمنعهن من الإبلاغ أو التماس المساعدة. وفي عام 2023، شكّل العنف الجنسي 28% من مجموع القضايا المسجلة لدى البحث الجنائي في عدن، كما سجلت تقارير ميدانية 30 حالة اغتصاب في مخيمات النازحين.
إن العنف الجنسي في اليمن لا يمكن عزله عن السياق الأشمل للنزاع المسلح، والانهيار المؤسساتي، واستمرار الإفلات من العقاب، وضعف الإرادة السياسية. وإن استمرار هذه الجرائم بصمت دولي، وتقاعس مؤسسات العدالة الوطنية، يضع الجميع أمام مسؤولية تاريخية وأخلاقية. فمعاناة النساء والفتيات ليست ثمنًا مقبولًا لأي نزاع، والعدالة ليست ترفًا مؤجلًا، بل حق أصيل يجب أن يُحمى، ويُفعل، ويُطالب به دون مساومة.
في السودان، أورد تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في ديسمبر 2023 ما لا يقل عن 412 حالة عنف جنسي مرتبطة بالنزاع، تم توثيقها في مناطق دارفور والخرطوم والجزيرةوأكدت منظمة هيومن رايتس ووتش وتقارير UNICEF أن هذه الانتهاكات طالت الفتيات الصغار وارتبطت بمشاهد عنف طائفي وأثني، وبيّنت أن الحالات تجاوزت الاختطاف والاغتصاب، بما يشمل الاعتداءات الشديدة والتعذيب . وفي مارس 2024، أشار فريق خبراء الأمم المتحدة إلى أن العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في دارفور يُستخدم كوسيلة للترهيب الجماعي تستهدف المجتمعات الإثنية
أما في غزة، فقد نبّه تقرير مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في مارس 2024 إلى أن الأوضاع في مراكز الإيواء – حيث يقطن أكثر من 1.7 مليون نازح داخلي – وفرت بيئة مهيئة لانتشار التحرش والاغتصاب والابتزاز الجنسي بسبب العجز التام عن توفير أمان وخصوصية، وسط انقطاع الإنارة والازدحام . وأكدت منظمة العفو الدولية في شهادات جمعتها اشتهرت بحديث توثيق تعرض فتيات لتحرشات متكررة داخل المدارس المحوّلة إلى مراكز إيواء في رفح ودير البلح. وبحسب تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان الصادر في أبريل 2024، فإن أقل من 12% من مراكز الرعاية تستطيع تقديم خدمات للناجيات من العنف الجنسي، نتيجة التدمير المنهجي للبنية التحتية الصحية .وفي مارس 2025، أصدرت لجنة الأمم المتحدة المستقلة تحقيقًا كشفت فيه عن "استخدام الحرب كأسلوب منهجي للعنف الجنسي" من قبل القوات الإسرائيلية، بما في ذلك هتك الحرمات، والاغتصاب الجماعي، والتحرش القسري، مع أهداف مدمرة أُدرجت في تقرير مفصل حول "أعمال تحمل طابع إبادي" بحق الفلسطينيين .
أما في دول عربية أخرى كليبيا، فجاء في تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (مارس 2023) أن مراكز الاحتجاز السرية، خاصة في مناطق مثل ترهونة وبني وليد، استُخدمت كأماكن لارتكاب اغتصاب المعتقلات والمساومة الجنسية مقابل إطلاق سراحهن، وأن بعض هذه الحالات تُعد جرائم ضد الإنسانية . وفي سوريا، وثقت لجنة التحقيق الدولية أكثر من 7,000 حالة عنف جنسي منذ عام 2011 في سجون النظام والفصائل المسلحة، وأشارت إلى أن 90% من الضحايا لم يبلّغن لأسباب تتعلق بالخوف من الانتقام والوصمة الاجتماعية . وفي العراق، فقد كشف تقرير مشترك بين للأمم المتحدة أن 2,700 امرأة وفتاة يزيدية لا تزال في عداد المفقودات، بعد تعرضهن للاستعباد والاغتصاب على يد داعش .
إن ما كشفته التقارير الدولية، والشهادات الميدانية، والمعاناة اليومية التي تواجهها النساء والفتيات في اليمن والسودان وغزة وسائر المناطق العربية المتأثرة بالنزاع، يعكس حجم المأساة ويضع العالم أمام مسؤوليته الأخلاقية والقانونية. إن العنف الجنسي لم يعد مجرّد أثر جانبي للحرب، بل أصبح سلاحًا مركزيًا يُستخدم لكسر المجتمعات، وتفكيك بنيتها الأخلاقية، وفرض السيطرة من خلال الجسد والوصمة. إن استمرار هذا النوع من الجرائم في ظل الصمت الدولي والتقاعس المؤسساتي لا يُعبّر عن عجز، بل عن تواطؤ ضمني يجب مساءلته.
ولذلك، فإن منظمة صحفيات بلا قيود، وإذ تضع هذه الحقائق أمام الرأي العام الإقليمي والدولي، تُقدّم التوصيات التالية كأرضية عاجلة للتحرك:
1. إنشاء آلية دولية مستقلة للتحقيق في جرائم العنف الجنسي في مناطق النزاع، لا سيما في اليمن والسودان وفلسطين، على أن تكون هذه الآلية محمية من التسييس وقادرة على جمع الأدلة وحماية الشهادات.
2. ضمان المشاركة الكاملة والفاعلة للناجيات من العنف الجنسي في صياغة السياسات والتشريعات والخطط الوطنية ذات الصلة، بما في ذلك جهود الإصلاح القانوني والرعاية النفسية والاجتماعية.
3. توفير دعم شامل للضحايا والناجيات، بما يشمل الرعاية الطبية المتخصصة، والمساعدة النفسية، والخدمات القانونية، مع ضمان سرية البيانات وحماية الهوية من أي انتقام مجتمعي أو سياسي.
4. مراجعة التشريعات المحلية في الدول المتأثرة، لإلغاء المواد التي تشرعن العنف الجنسي أو تعيق ملاحقة الجناة، مثل استثناء الاغتصاب الزوجي، أو إسقاط العقوبة عن الجاني في حال الزواج من الضحية.
5. دعم برامج التوعية والتثقيف المجتمعي التي تساهم في كسر ثقافة الصمت والعار، وتعزيز مفهوم الجسد كمساحة محمية من الانتهاك، بصرف النظر عن السياق السياسي أو الديني أو الثقافي.6. مضاعفة التمويل الدولي الموجّه لحماية النساء والفتيات في النزاعات، وضمان تخصيص موارد حقيقية للمساءلة، وجبر الضرر، وإعادة الإدماج، وليس فقط للتقارير والدراسات.
إن إنهاء العنف الجنسي في النزاعات ليس خيارًا مؤجلًا، بل مسؤولية حاضرة وملحة، تبدأ من الاعتراف بالضحايا، ولا تنتهي إلا حين تتحقق العدالة. ندعو المجتمع الدولي، والمؤسسات الأممية، والحكومات، ومنظمات المجتمع المدني، إلى تحويل الالتزامات من نصوص إلى فعل، ومن شعارات إلى ضمانات. الناجيات لسن أرقامًا. إنهن شهود على انهيار الإنسانية. ومن لا يسمع صوتهن، يكون شريكا في الألم.
صحفيات بلا قيود
19 يونيو 2025